القائمة الرئيسية

الصفحات

 

قصـر "هارون الرشـيد" في "الرقة"

     (قصر السلام)" القصر الأبيض"

عادة يتم صناعة (قطع اللبن) المجفف تحت أشعة الشمس في بداية شهر حزيران وحتى نهاية شهر تشرين الأول، إذ أن قطع اللبن (حسب اللهجة الرقاوية) يحتاج إلى درجات حرارة مرتفعة ليجف الطين. وعملية قطع اللبن يتطلب مجهود جسدي كبير، إذ يقوم الأهالي بجمع التراب الحري النظيف وتحضير الجبلة بخلطها مع الماء مع إضافة مادة التبن، ثم يقومون بقطع اللين إلى قوالب بواسطة الملبن المكون من أربعة مستطيلات مصنوعة من الخشب، بحيث تملئ بالطين وتمسح بواسطة "المالج" ويكون رطباً وسطحه أملس إذ أنه يجعل من قطع اللبن المستطيلة مسطحة وناعمة وأطرافها الأربعة متساوية، بعد ذلك يرفع الملبن بواسطة اليدين كونه مزود بمسكتين في نهاية أطرافه المستطيلة إذ تكون اللبنات مستطيلة الشكل، ثم يترك اللبن حتى يجف تحت أشعة الشمس، ومن ثم يترك لمدة خمسة أيام تحت أشعة الشمس ويقلب إلى الطرف الثاني كي يجف أكثر ويكسب متانة جيدة، بعد ذلك ينقل إلى مكان البناء.. وبهذه الطريقة كان يصنع اللبن في العصر العباسي وبه تم بناء قصور الرشيد وقصور رجال دولته، والنموذج الأمثل هو قصر السلام" بلاط "الرشيد" الشهير.


وصل التطور العمراني في مدينة "الرقة" إلى أوجه أيام الخليفة "هارون الرشيد" /786- 809/م، الذي تمتعت "الرقة" في ظله بأهمية كبيرة، وجعل منها مركزاً لخلافته لمدة أكثر من عشر سنوات.. فقد شيد القصرين (ج و ب)، الواقعين في القطاع الشمالي من منطقة القصور العباسية، في فترة انتقال "الرشيد" من "بغداد" إلى "الرقة"، في العقدين الأخيرين من القرن الثامن الميلادي، مما أدى إلى توسع كبير في حجم المدينة. ففي المنطقة الواقعة في الشمال والشمال الشرقي من سور المدينة الإسلامية الجديدة المعروفة باسم "الرافقة" (الرقة)، أنشأ الخليفة "هارون الرشيد"، ورجال بلاطه العديد من القصور والحدائق والمساكن، التي غطّت مساحة تقدر بأربعة كيلو مترات طولاً، وخمسة كيلو مترات عرضاً. ولكن التوسع العمراني العشوائي الحديث لمدينة "الرقة" غطى القسم الأعظم من منطقة القصور العباسية الغائبة في باطن الأرض. وعملاً بالمقولة: في سبيل الحفاظ على الممكن وقدر المستطاع، قام المعهد الأثري الألماني بـ"دمشق" منذ عام /1982/ م، بالاشتراك مع المديرية العامة للآثار والمتاحف في "دمشق"، وبتمويل من مركز البحوث القومي في ألمانيا الاتحادية، بالتنقيب الأثري في الأطراف الشمالية والشرقية من منطقة القصور العباسية في سبيل إنقاذ ما يمكن إنقاذه .. بدأ التنقيب الأثري في المنطقة الواقعة إلى الجنوب من سوق الغنم الحالي، التي يحدها من الغرب طريق الإسفلت، ومن الجنوب والشرق حقول زراعية، ومن الشمال أيضاً يحدها طريق إسفلتي يفصل بينها وبين سوق الغنم.



 خلال الأعوام الثلاثة الأولى من مراحل التنقيب الأثري، تمَّ الكشف عن معالم بناء محاط بباحات مكشوفة من جهاته الثلاث. ومنذ البدايات الأولى تأكد للمنقبين أنهم أمام مبنى كبير، ولا بدَّ أن يكون أحد قصور مدينة "الرشيد"، إن لم نقل أحد قصور "هارون الرشيد". كانت جدران هذا المبنى سميكة وقائمة لأكثر من متر ونصف المتر، وهي مبنية من مادة اللبن المجفف تحت أشعة الشمس .. وفي الأصل كانت مساحة القصر /70×40/م، وأنَّ مجموعة الغرف والقاعات المكتشفة، تشكل جزءاً مهماً من محور القصر الأساسي كله. وبدءاً من الساحة المكشوفة الواقعة في الجهة الشمالية من القصر، كان ثمة دهليز يقود المرء إلى قاعات الاستقبال الرئيسية، وإلى القاعة المتوسطة الكبيرة ذات الأبعاد /15×7/م، وهي متصلة في جانبيها عبر باب واسع نسبياً بغرفة أبعادها /5,5×5/م، ونجد في الشمال والجنوب شرفة ثلاثية الأقواس، الشمالية تطلُّ على الباحة الشمالية الكبرى للقصر، بينما الشرفة الجنوبية تستقبل الضفة اليسرى للفرات مباشرة، وبدءاً من الجهة الشمالية نجد أنَّ الشرفة هناك تقودنا إلى الباحة الداخلية ذات الأبعاد /30×25/م، وعند الضلع الغربي للباحة تتموضع مجموعة من غرف الخدمات العامة (المطابخ). أما غرف النوم والمبيت والمعيشة اليومية، فإنها تقع في الجهة الشمالية من منطقة المطابخ. ويلاحظ أنَّ قسمي المعيشة اليومية والمرافق العامة لا يشكلان إلا مساحة صغيرة، إذا ما قيسا بالمساحة التي يحتلّها قسم المراسم والاستقبال .. كان كامل القصر قد شيَّد من مادة اللبن المجفف تحت أشعة الشمس، ولُفِّحتْ النواة بمادة الآجر المشوي لكامل منشآت القصر. لقد حظي قسم الاستقبال دوناً عن غيره من أقسام القصر الأخرى بكثرة زخارفه المعمارية، إذ أنَّ جميع الأبواب والمداخل في هذا القسم، كانت مزينة بأُطُرٍ زخرفية معمولة من مادة الجص، وبحدود /52/ قطعة من هذه الأطر هي الوحيدة التي كانت معروضة في متحف "الرقة" الوطني قبل سرقته، وبعضاً من هذه الأطر سلمت من السرقة .. إنَّ هذه الأطر مزينة بزخارف نباتية، على شكل سلسلة من التوريقات وأغصان الكرمة المحفورة في الإطار الجصي حفراً عميقاً، بحيث يترك انطباع تباين في عملية الظّل والنور. وكانت هذه الأطر فيما مضى من الزمان عندما كان القصر عامراً، تستند على خلفية مشيَّدة من مادة الآجر المحروق. ويلاحظ أيضاً أنَّ الأطر الجصية المزخرفة كانت مموهة بطبقة من الطلاء الجصي الأصم، مما يشير إلى أنَّ القصر ربما ظلَّ مسكوناً لفترة طويلة من الزمن، وبالمقارنةً بين الأطر الجصية التي تم العثور عليها في هذا القصر، وبين تلك التي كشف عنها في القصرين (ج و ب) قبل ذلك بأربعين عاماً، فإنَّ هذا القصر يعود إلى نفس الفترة التاريخية التي شُيد فيها القصران (ج و ب)، وهي الفترة التي كان "هارون الرشيد" يقيم خلالها في "الرقة". ويؤكد صحة هذا التاريخ النقود التي عثر عليها المنقبون في القصر الشرقي، وجميعها مضروبة في الرافقة "الرقة"، بين عامي /797/ و/804/م"، وبناءً على ما تقدم فإنَّ هذا القصر المسمى بالقصر الشرقي(قصر السلام) هو أحد قصور "هارون الرشيد" المُطلّة على الفرات مباشرة. لكن، على ما يبدو، أنَّه بعد عودة "الرشيد" إلى "بغداد" في عام /808/م، فإنَّ الحياة في هذا القصر قد خبت، ولم يعد يستخدم إلاَّ استخداماً مؤقتاً، وبعد الأعوام /838/ و/842/م، بدأ الإهمال والخراب يدبان في مدينة /الرشيد/، ومنذ ذلك الزمن لا يوجد لدينا دليل قاطع على انتعاش منطقة القصور في /الرقة/ مرة أخرى في القرنين /12/ و/13/ الميلاديين، إلاَّ المصادر التاريخية والنقود المسكوكة باسم السلطان "الناصر يوسف بن أيوب الثاني" من الفترة /1237-1260/م.

محمد العزو



تعليقات